تمديد حياة الإنسان والاستثمارات العربية
عبد القادر الكاملي – مستشار تكنولوجيا المعلومات والاتصالات
يصل عمر السلحفاة العملاقة التي تعيش في جزر المحيطين الهندي والهادي إلى 150 عاماً أو أكثر، ويصل عمر الحوت مقوس الرأس (Balaena mysticetus) الذي يعيش في المحيط المتجمد الشمالي لأكثر من 200 عام، ويصل عمر بلح البحر الذي يعيش في المياه العذبة حتى 280 عاماً، أما قنديل البحر “تيولا” فهو خالد لا يموت إن لم يقتله أحد أو يواجه حادثة مميتة. إذاً لماذا لم يتجاوز العمر الأقصى الموثق للإنسان 122 عاماً و164 يوماً فقط، والمسجل باسم الفرنسية فرانسيس جين كالميت التي توفيت عام 1997؟ وهل يمكن للعلم تمديده؟
من التحنيط إلى التجميد
حلم الحياة الأبدية يداعب خيال الإنسان منذ تبلور وعيه بذاته، فالتحنيط لدى المصريين لم يكن يهدف سوى إلى انبعاث حياة المُحَنط من جديد. اليوم يأتي التجميد كمحاولة عصرية جديدة تستلهم التحنيط القديم، فبتنا نشهد تزايداً في عدد المراكز التي توفر خدمات تجميد الإنسان بهدف إعادته إلى الحياة لاحقاً عندما تتوفر التقنيات الملائمة. يوجد لهذه الغاية مركزان في الولايات المتحدة الأمريكية ومركزاً في روسيا وآخر في الصين، ومن المتوقع أن يتم تشغيل مركزين آخرين في كل من أستراليا وسويسرا قريباً. وفيما يرى بعض العلماء أن إعادة هذه الجثث المجمدة إلى الحياة قد تصبح ممكنة في المستقبل مع تطور العلوم والتقنية، يعتقد العديد من العلماءالآخرين أن هذه العملية لن تصبح ممكنة في يوم من الأيام، على الرغم من تحسن تقنية التجميد باستمرار. يوجد اليوم نحو 500 إنسان مجمد في العالم معظمهم في الولايات المتحدة الأمريكية، بالإضافة إلى نحو 4 آلاف شخص مدرجة أسماؤهم في قوائم الانتظار. تبلغ تكلفة تجميد الشخص المعلنة من قبل بعض المراكز نحو 200 ألف دولار تدفع عند الوفاة. لكن الجهود العلمية والاستثمارات المالية لتمديد حياة الإنسان تنصب حالياً حول معالجة الشيخوخة باعتبارها مرضاً.
إعادة برمجة خلايا الإنسان (Cellular Reprogramming)
تركّز العديد من الأبحاث حالياً على البرمجة الخلوية، اعتماداً على النتائج التي توصل إليها العالم الياباني شينيا ياماناكا عام 2006 والتي بينت أنه بإضافة أربعة بروتينات فقط، يمكن توجيه الخلايا البالغة للعودة إلى حالة الخلايا الجذعية الجنينية ما يؤدي إلى تجديد الخلايا وإعادة الشباب إليها.
في الفترة الممتدة بين 31 مايو/أيار و3 يونيو/حزيران 2022 اجتمع في المؤتمر السنوي “لايف إتسلف” (Life Itself) في سان دييغو، كاليفورنيا، نحو 50 متحدثاً وعدداً من القادة في تخصصات تتقاطع مع مجالات الصحة والطب، لعرض ومناقشة أحدث الأفكار والتقنيات والتجارب المبتكرة المرتبطة بالصحة والشيخوخة. تحدث في هذا المؤتمر ريتشارد كلاوسنر (Richard Klausner)، كبير العلماء في شركة ألتوس لابس (Altos Labs) وهي شركة أبحاث جديدة تم تمويلها بأكثر من 3 مليارات دولار. عرض كلاوسنر معلومات عن تجارب لم يسبق نشرها تظهر أن فئران مريضة استعادت صحتها بعد إعادة برمجة خلاياها. ارتكزت هذه التجارب على إعادة ضبط الإبيجينوم (epigenome) أو ما يطلق عليه “ما فوق الجينوم” وهي علامات كيميائية تتحكم في الجينات بتشغيلها أو إيقاف تشغيلها في الخلية. تتغير هذه العلامات مع تقدم العمر، فتوقف وتشغل جينات الخلايا بطريقة تؤدي إلى شيخوختها. إعادة برمجة هذه العلامات هي تقنية يمكنها عكس هذا المسار، ولكن يمكنها أيضاً تغيير الخلايا بطرق خطرة، قد تسبب السرطان، ما يتطلب الكثير من التجارب والأبحاث قبل تطبيقها على الإنسان.
قال كلاوسنر إن إعادة الخلايا الشائخة إلى وضعية الشباب يمكّنها أن تتعافى من الإجهاد البيولوجي بطرق لا يمكن للخلايا الشائخة القيام بها. وقال أصبح هذا ممكناً، وعرض شرائح عليها علامة “سري” تدّعي أن الفئران السمينة قد تعافت من مرض السكري بعد العلاج، وأن فئران أخرى طالت أعمارها بفضل هذه التقنية. وقال للجمهور: “نعتقد أنه يمكننا إعادة عقارب الساعة إلى الوراء”.
يرى ديفيد سينكلير، الذي يدير مختبراً لأبحاث الشيخوخة في جامعة هارفارد والذي شارك في هذا المؤتمر، أن تقنيات البرمجة الخلوية ستمدد عمر الإنسان لسنوات كثيرة، قال: “أتوقع أن يصبح أمراً عادياً أن تذهب إلى الطبيب يوماً ما للحصول على وصفة طبية لدواء سيعيدك إلى الوراء عقداً من الزمن”. وأضاف: “لا يوجد سبب يمنعنا من العيش 200 عام”.
وفي مؤتمر آخر هو منتدى دبي للمستقبل الذي عقد من 10-12 أكتوبر 2022، قال الدكتور خوسيه كوردير ممثل مؤسسة ما بعد الإنسانية (Transhumanism)، إن الشيخوخة مشكلة فنية يمكن عكسها، وأن أي شخص لا يزال على قيد الحياة بحلول عام 2030 لديه فرصة جيدة للعيش إلى الأبد. وبهذا كان كوردير الأكثر تفاؤلاً بنجاح تقنيات الطب التجديدي (Regenerative Medicine) وإعادة برمجة خلايا الإنسان.
الاستثمار في الأبحاث والعلاجات المرتبطة بالشيخوخة
قدرت مؤسسة انسايت.ايس أناليتك (InsightAce Analytic) قيمة السوق العالمي المرتبط بأبحاث تمديد عمر الإنسان ومعالجة الشيخوخة ـنحو 25.33 مليار دولار أمريكي عام 2021، وتوقعت أن تصل إلى 41.10 مليار دولار أمريكي بحلول عام 2030، بمعدل نمو سنوي مركب يبلغ 5.8 بالمئة خلال فترة التوقعات 2022-2030.
الاستثمارات العربية
في مصر تم افتتاح مركزاً لدراسات الشيخوخة والأمراض المرتبطة بها ضمن مدينة زويل للعلوم والتكنولوجيا في الأول من يوليو عام 2012. وذكرت النشرة الإخبارية الصادرة حديثاً عن المدينة أن المركز يهدف إلى تعزيز وتسهيل الدراسات والبحوث التي من شأنها أن تكشف عن آلية الإصابة بالأمراض المرتبطة بالشيخوخة، مثل: السرطان، ومرض السكري، ومرض الزهايمر. وذكر التقرير أن هذه البحوث قد تثمر عن أدوية ومنهجيات جديدة للعلاج. لكن يبدو أن الأموال المرصودة لهذا المركز متواضعة مقارنة بالأموال التي بدأت بعض بلدان الخليج العربي رصدها للبحث والتطوير في هذا المجال.
في الشهر الأول من هذا العام (2022) أنشأت دولة الإمارات أكبر شركة استثمارية في مجال الرعاية الصحية في الدولة باسم “بيور هيلث” (Pure Health). وفي حفل أقيم هذا الشهر في متحف اللوفر أبوظبي بمناسبة الذكرى الخامسة لتأسيسه قال الرئيس التنفيذي لشركة “بيور هيلث”، فرحان مالك إن شركة بيور هيلث تعمل على جعل عاصمة دولة الإمارات مركزاً لأبحاث طول العمر. وقال إن هدف الشركة هو “إطالة العمر من 76 سنة في المتوسط إلى 101”.
وفي منتصف هذا العام (2022)، أطلقت المملكة العربية السعودية مؤسسة “هيفولوشن” (Hevolution Foundation)
لدعم الأبحاث الأساسية في علم بيولوجيا الشيخوخة وتعهدت بإنفاق ما يصل إلى مليار دولار سنوياً في البحث والتطوير المرتبط بإطالة العمر الصحّي للإنسان.
وإلى أن يحرز العلم تقدماً حقيقياً في الطب التجديدي علينا أن نتذكر أن العمر المديد لا يتعلق بإعادة برمجة الجينات فقط، فإذا كانت “الجينات تشحن البندقية فإن أسلوب الحياة يسحب الزناد”، وفق عالمة الأحياء الأمريكية إليزابيث بلاكبيرن، الحائزة على جائزة نوبل في الطب عام 2009.